الدعوة الفرية عمليةٌ يقوم بها فردٌ لإيصال فردٍ آخر لمرحلةٍ معينةٍ، سواءٌ كانت هذه المرحلة مرحلةً فكريةً (توصيل مفاهيم وأفكار)، أو مرحلةً تربويةً (القيام بسلوكيات تربوية معينة).
وبدون هذه العملية من الصعب جدًّا أن يتغير فردٌ ما أيَّ نوعٍ من أنواع التغير الحقيقي- تغيير الأفكار والسلوك- ولا يستمر هذا التغيير إلا عن طريق ما يُسمَّى بالدعوة الفردية، سواءٌ تمت هذه العملية باتفاقٍ بين الطرفين- الداعي والمدعو- أو بصورةٍ غير متفقٍ عليها عن طريق انغماس المدعو في بيئةٍ تدفعه إلى التغير بطريق القدوة.
إحدى الدراسات توصلت بحسبةٍ رياضيةٍ بسيطة إلى أنه إذا قام فردٌ ما بدعوة فردٍ آخر ونجح في دعوته بعد عام، ثم قام الشخصان بدعوة فردين آخرين، فإذا قُدِّر لهما النجاح بعد عام أصبحا أربعة، ثم الأربعة يصبحون ثمانية.. وهكذا.
وتوصلت الدراسة النظرية (العددية) إلى أنه بعد 30 عامًا سيصبح عدد الأشخاص الذين تمَّ النجاح في دعوتهم فرديًّا إلى مليار فرد!!.
أنا شخصيًّا قرأتُ هذه الدراسة منذ ما يقرب من عشر سنوات، ومنذ أن قرأتها وأنا أتساءل إلى الآن: لماذا لا تسير هذه المتوالية (المعجزة) سيرًا طبيعيًّا يحقق آمال المسلمين كلها بعد ثلاثين عامًا فقط، وهو رقم زهيدٌ في عمر الدعوات؟!.
وتوصلتُ إلى أن هناك عدةَ عوامل مهمة نغفلها تعوق دون تحقيق حلم الدعوة الفردية، وهي:
1- صعوبة الدعوة الفردية ووقتها تجعل معظم الدعاة ينصرفون عنها إلى أعمال
أكثر سهولةٍ نسبيًّا التي تعني بعقد اللقاءات والكلمات، وربما المسيرات والمؤتمرات.
2- عدم توافر مؤهلات ممارسة الدعوة الفردية للداعية، وأولها على الإطلاق عدم دراسة الدعوة الفردية دراسةً نظريةً كافيةً قبل الإقدام على الممارسة العملية لها.
يُضاف إلى ذلك ضعفُ الصفات الشخصية للداعية؛ من الصبر والذكاء، والحماس والثقافة الدينية وعلم النفس؛ مما يُعرِّض الداعية للفشل في أول الطريق، ويعوقه عن المحاولة مرةً أخرى، فينصرف عنها إلى أعمالٍ أخرى يستنفد فيها طاقته.
3- عدم الالتفات لنظريةٍ مهمةٍ جدًّا في التربية، وهي نظرية المؤثرات، بمعنى أن المدعوَّ يكون تحت تأثير عدة قوى مؤثرة داخل المجتمع، مثل الأسرة، الأصدقاء الإعلام، والداعية نفسه، والنجاح والفشل مع المدعو هو اتجاه محصلة القوى المؤثرة فيه، ويتصور الداعية دائمًا أنه يقع تحت تأثير القوة التي يصنعها هو فقط، ويتعجب بعد ذلك من عدم استجابة المدعو له، إلا أن الواقع يقول إن قوةَ تأثير الداعية ربما تكون أضعف القوى المؤثرة على المدعو.
إن أخذ هذا العامل في الاعتبار يدفع الداعية إلى أن يحاول أن يُدخل مَن يدعوه في بيئةٍ مختلفةٍ تزيد قوة التأثير الإيجابية في اتجاهه، وتقلل قوى التأثير السلبية في أي اتجاهٍ آخر، عن طريق إشغال وقت المدعو بصورةٍ فعَّالةٍ، سواءٌ كان المدعو معه أو بعيدًا عنه.
وهو ما يُعرَف بـ"المساحة المشتركة" وهي المساحة التي يشترك فيها الداعية والمدعو بصورةٍ طبيعيةٍ، مثل: وجود الداعي والمدعو في مكانٍ واحدٍ مثل الجامعة أو المدرسة أو العمل، المشاركة في نشاطٍ رياضي أو ثقافي، استغلال مواهب المدعو في الأعمال المفيدة، متابعة الدراسة.. إلخ، وهي مساحة تُمكِّن الداعية من الاتصال بالمدعو أطول فترةٍ ممكنةٍ، وبالتالي التأثير فيه عند نجاحه في استغلالها بصورةٍ تلقائية غير مفتعلةٍ.
4- عدم الصبر، والتوقف عند مرحلة معينة دون إكمال بقية المراحل؛ مما يعد إهدارًا للجهد والوقت والمال أيضًا.
5- نتيجةً لظروفٍ خارجية لا يستطيع أن يتحكَّم فيها الداعية، لظروف سفر المدعو أو ضغط الأسرة بسبب الدراسة أو الخوف عليه.. إلخ.
6- عدم الاهتمام بصورةٍ بحثيةٍ جادة بتطوير دراسات الدعوة الفردية، فتظل المشاكل كما هي دون حل.
7- التساهل في الدعوة الفردية وسط كمِّ الأعمال الكبير الذي يأخذ الداعية والمدعو على السواء؛ مما يجعل الدعوة الفردية في بندٍ متأخرٍ في جدول الأعمال بالرغم من أهميته البالغة.